
شرح أخلاق العلماء
للامام أبي بكر محمد بن الحسين بن عبد الله الآجري رحمه الله
الشيخ وصي الله محمد عباس حفظه الله
العلماء هم قادة الأمة، وخلفاء الرسل، وورثة الأنبياء، أخذوا على أيدي الأمة من حضيض المستنقعات والرذائل إلى الالتزام بشرع الله والتحلي بالفضائل، لكن لابد للعالم الرباني من أخلاق يتحلى بها حتى يكون قدوة للأمة، كالخشية والخوف من الله، والتواضع، ولزوم طلب العلم والدعوة إلى الله وغير ذلك من الأخلاق.
شرح أخلاق العلماء |
||
إستماع |
العنوان |
|
|
الدرس الأول من شرح أخلاق العلماء الشيخ وصي الله محمد
عباس حفظه الله |
|
|
الدرس الثاني شرح أخلاق العلماء الشيخ وصي الله محمد عباس
حفظه الله |
|
|
الدرس الثالث شرح أخلاق العلماء الشيخ وصي الله محمد
عباس حفظه الله |
|
|
الدرس الرابع شرح أخلاق العلماء الشيخ وصي الله محمد
عباس حفظه الله |
|
|
الدرس الخامس من شرح أخلاق العلماء الشيخ وصي الله محمد
عباس حفظه الله |
|
أخلاق العلماء وأثرها في الأمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وبعد..
فنسأل الله تعالى أن يعيذنا جميعاً من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، وأن ينصر دينه، ويعلي كلمته، ويخذل أعداءه.
ثم أشكر القائمين على هذه المؤسسة على دعوتهم لي إلى هذا اللقاء، وأسأل الله عزَّ وجلَّ أن يبارك في جهودهم، وأن يعينهم على كل خير، وأن يتغمد الملك فيصل برحمته ورضوانه، وأن يرفع درجاته في المهديين، وأن يصلح ذريته وجميع الأسرة، وأن يوفق خادم الحرمين الشريفين لما فيه رضاه، ولما فيه صلاح المسلمين وسعادتهم في العاجل والآجل، وأن يوفق جميع الأسرة السعودية لكل ما ينفع المسلمين في دينهم ودنياهم، وأن يجمع كلمتهم على الحق، وأن ينفع بهم العباد والبلاد.
كما أسأله سبحانه أن يوفق علماء المسلمين في كل مكان لما فيه صلاح المسلمين، ولما فيه توجيههم إلى الخير، ولما فيه إرشادهم إلى أسباب النجاة، وأن يعينهم على أداء الواجب، وأن يصلح قادة المسلمين جميعاً ويوفقهم لتحكيم شريعته، والالتزام الشرعي بها، والاستقامة عليها، وأن يوفق جميع المسلمين لما فيه صلاحهم وسعادتهم في العاجل والآجل.
أما موضوع المحاضرة فكما سمعتم هو: "أخلاق العلماء وأثر ذلك في المجتمع الإسلامي وغير الإسلامي أيضاً".
لا ريب أن العلماء الصالحين المهتدين هم خلفاء الرسل، وهم الدعاة إلى ما جاءت به الرسل من توحيد الله والإخلاص له، واتباع الهدي الذي جاءت به الرسل، وهم القادة في توجيه الناس إلى أسباب النجاة، وتحذيرهم من أسباب الهلاك.
ولهذا روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (ليحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وتأويل الجاهلين، وانتحال المبطلين)، يبصِّرون بكتاب الله أهل العمى، وينذرونهم عواقب الجهل والظلم، والذود عن أسباب الهلاك، يدعونهم إلى مكارم الأخلاق، ويحذرونهم من مساوئ الأخلاق.
المقصود أنه سبحانه وتعالى جعل العلماء هم الخلفاء للرسل، وهم الدعاة إليه، وهم المبصرون لعباده، فجدير بهم أن يؤدوا هذه الأمانة بكل عناية وإخلاص وصدق.
والأثر الذي أشرت إليه: (ليحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وتأويل الجاهلين، وانتحال المبطلين) ذكره ابن عبد البر رحمه الله، وذكره العلامة ابن القيم رحمه الله في كتابه مفتاح باب السعادة ، وأطال فيه رحمه الله، وله طرق.
فأهل العلم هم الدعاة إلى الله، وهم المبصرون بكتاب الله أهل العمى، وهم الصابرون على الأذى، وهم النجوم التي يُهتدى بها في ظلمات الجهل والضلال والشكوك والأوهام، وهم -في الحقيقة- أهل خشية الله بعد الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
فأئمة الهدى ودعاة الحق هم الرسل في الطبقة الأولى، والأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ثم يليهم العلماء بالله وبدينه، والهداة إليه، وهم على مراتب وعلى طبقات أيضاً.
وكلما كان العالم أعلم بما جاءت به الرسل، وأخلص وأصدق في العمل؛ كان أكثر قياماً بالخلافة، وأكثر تأسياً بالرسل، وأكثر أجراً، وأعظم ذكراً.
فنسأل الله تعالى أن يعيذنا جميعاً من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، وأن ينصر دينه، ويعلي كلمته، ويخذل أعداءه.
ثم أشكر القائمين على هذه المؤسسة على دعوتهم لي إلى هذا اللقاء، وأسأل الله عزَّ وجلَّ أن يبارك في جهودهم، وأن يعينهم على كل خير، وأن يتغمد الملك فيصل برحمته ورضوانه، وأن يرفع درجاته في المهديين، وأن يصلح ذريته وجميع الأسرة، وأن يوفق خادم الحرمين الشريفين لما فيه رضاه، ولما فيه صلاح المسلمين وسعادتهم في العاجل والآجل، وأن يوفق جميع الأسرة السعودية لكل ما ينفع المسلمين في دينهم ودنياهم، وأن يجمع كلمتهم على الحق، وأن ينفع بهم العباد والبلاد.
كما أسأله سبحانه أن يوفق علماء المسلمين في كل مكان لما فيه صلاح المسلمين، ولما فيه توجيههم إلى الخير، ولما فيه إرشادهم إلى أسباب النجاة، وأن يعينهم على أداء الواجب، وأن يصلح قادة المسلمين جميعاً ويوفقهم لتحكيم شريعته، والالتزام الشرعي بها، والاستقامة عليها، وأن يوفق جميع المسلمين لما فيه صلاحهم وسعادتهم في العاجل والآجل.
أما موضوع المحاضرة فكما سمعتم هو: "أخلاق العلماء وأثر ذلك في المجتمع الإسلامي وغير الإسلامي أيضاً".
لا ريب أن العلماء الصالحين المهتدين هم خلفاء الرسل، وهم الدعاة إلى ما جاءت به الرسل من توحيد الله والإخلاص له، واتباع الهدي الذي جاءت به الرسل، وهم القادة في توجيه الناس إلى أسباب النجاة، وتحذيرهم من أسباب الهلاك.
ولهذا روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (ليحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وتأويل الجاهلين، وانتحال المبطلين)، يبصِّرون بكتاب الله أهل العمى، وينذرونهم عواقب الجهل والظلم، والذود عن أسباب الهلاك، يدعونهم إلى مكارم الأخلاق، ويحذرونهم من مساوئ الأخلاق.
المقصود أنه سبحانه وتعالى جعل العلماء هم الخلفاء للرسل، وهم الدعاة إليه، وهم المبصرون لعباده، فجدير بهم أن يؤدوا هذه الأمانة بكل عناية وإخلاص وصدق.
والأثر الذي أشرت إليه: (ليحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وتأويل الجاهلين، وانتحال المبطلين) ذكره ابن عبد البر رحمه الله، وذكره العلامة ابن القيم رحمه الله في كتابه مفتاح باب السعادة ، وأطال فيه رحمه الله، وله طرق.
فأهل العلم هم الدعاة إلى الله، وهم المبصرون بكتاب الله أهل العمى، وهم الصابرون على الأذى، وهم النجوم التي يُهتدى بها في ظلمات الجهل والضلال والشكوك والأوهام، وهم -في الحقيقة- أهل خشية الله بعد الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
فأئمة الهدى ودعاة الحق هم الرسل في الطبقة الأولى، والأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ثم يليهم العلماء بالله وبدينه، والهداة إليه، وهم على مراتب وعلى طبقات أيضاً.
وكلما كان العالم أعلم بما جاءت به الرسل، وأخلص وأصدق في العمل؛ كان أكثر قياماً بالخلافة، وأكثر تأسياً بالرسل، وأكثر أجراً، وأعظم ذكراً.
...........................................................
أخلاق العلماء | أبي بكر محمد بن الحسين بن عبد الله الآجري
اشتمل هذا الكتاب على (105) نصًا مسندًا ، رتبها المؤلف تحت مقدمة في “فضل العلم”، ثم باب “ذكر ما جاءت به السنن والآثار من فضل العلم والعلماء في الدنيا والآخرة”، ثم ذكر لب مادة الكتاب تحت عنوان ” كتاب أخلاق العالم الجاهل المفتتن بعلمه . وقد تضمن الكتاب على أحاديث مرفوعة، وآثار موقوفة ومقطوعة, والمؤلف يعلق على ما يسرده من الأخبار؛ وتعليقه يمثل توضيح دلالة النص أو بيان مفاده، وقد يذكر المؤلف ما يريده من المعاني، ثم يتبعه بما يؤكده من النصوص
من خلال كتابيه “أخلاق حملة القرآن” و”أخلاق العلماء”، يبدو الفقيه أبو بكر الآجري رحمه الله منشغلا بما يمكن أن نسميه ترسيم حدود بين أهل العلم وعامة الناس. وهو ترسيم يحكمه الوازع الديني ممزوجا بحس أخلاقي عال، وبمشاهدات تُنبئ عنها عظاته وتوجيهاته المفعمة بالإشفاق والحنو على ورثة الأنبياء. يصفه بعض من نقلوا شيئا من أخباره، كالخطيب البغدادي وابن خلكان وغيرهما، بالثقة و الدين والخلق، وأنه كان صاحب سنة يكره التعصب المذهبي. استكمل مشواره التعليمي ببغداد، وحدّث بها زمنا، ثم انتقل إلى مكة حاجا فأعجبته، فدعا الله أن يرزقه الإقامة بها سنة، غير أنه سمع هاتفا يقول: بل ثلاثين سنة، فكان كذلك. وقضى مدة إقامته بها مُحدثا وداعيا إلى الورع والزهد، واتباع طريق السلف إلى أن وافته المنية سنة ستين وثلاثمئة للهجرة. أما كتابه (أخلاق العلماء) فيرى الحافظ ابن رجب أنه من أجلّ ما صُنف في أخلاق العلماء وآدابهم. وكل من تأمله علم طريقة السلف وما حدث بعدها من مخالفات. والكتاب بحق منظومة أخلاق وقيم، تؤطر حركة العالِم داخل المجتمع، وتُنبه إلى الآفات التي تشوب أداءه فتُجرده من رسالته السامية، ودوره في تهذيب القلوب، وإصلاح الفهم والسلوك؛ كل ذلك بأسلوب مشرق وهادئ، ومفعم بحس المسؤولية التي ألقتها نصوص الكتاب والسنة على عاتق العلماء. تضمنت خطة الكتاب كما وضعها الآجري إبراز مكانة العالِم في الإسلام، ومظاهر التشريف التي خصته بها الآيات والأحاديث النبوية. إلا أن الأمر مشروط بالتزام آداب وأخلاق محددة، سواء في طلبه للعلم أو عند نشره وتبليغه. ويظل الهاجس الذي يحكم الآجري في توجيهاته العديدة هو “النية” التي تقف خلف هذا الطلب، فيؤكد غير ما مرة في ثنايا الكتاب على ابتغاء ثواب الله، والزهد في متاع الدنيا، والحذر من التقرب للأغنياء أو مجالسة الأمراء. عند عرضه للسنن والآثار الواردة في فضل العلماء، يزاوج الآجري بين ثمرة حضور العالِم في المجتمع وألوان الانكسارات التي تعقب غيابه. فالذين أوتوا العلم هم أشد الناس خشية لله، وأعلى درجة منهم. هم النجوم التي يُهتدى بها كما قال أبو الدرداء رضي الله عنه، وكل شيء يستغفر لهم حتى الحيتان في البحر. أما غيابهم وفقدهم فهو نجم طُمس وكسر لا يُجبر، ولا خير في الناس بعدهم. وينقل عن ابن مسعود رضي الله عنه أثرا يؤكد فداحة الخطب حين يموت العالِم، فيقول محدثا جلساءه: “أتدرون كيف ينقص الإسلام؟ قالوا: كيف ؟ قال كما ينقص الدابة سمنها، وكما ينقص الثوب عن طول اللبس، وكما ينقص الدرهم عن طول الخبت، وقد يكون في القبيلة عالمان فيموت أحدهما فيذهب نصف علمهم، ويموت الآخر فيذهب علمهم كله.” في الباب الثاني من الكتاب يشرع الآجري في ترسيم الحدود بين صورة العالِم كما تناولتها نصوص الكتاب والسنة وأقوال السلف، وبين تجلياتها في الواقع. فاهتم بداية بإزالة اللبس الذي قد ينشأ لدى طالب العلم حين يستعرض تلك النصوص، فيتوهم أن الفضل عام يشمل كل من تعلم علما وحفظه، بغض النظر عن الوشيجة الدينية والأخلاقية التي تحكم هذا المسار، فيُنبه للأمر قائلا: ” فإن قال قائل من علم العلم وحفظه وناظر فيه يدخل في هذا الفضل الذي ذكرت. قيل له أرجو أن لا يخلي الله كل مسلم طلب الخير والعلم من خيره الذي وعد به العلماء، ولكن قد ذُكرت لهم أوصاف وأخلاق.” وحين نلقي نظرة على مجمل الأوصاف التي حددها الآجري لطلبة العلم، نلمح في ثناياها استياء مما آل إليه التحصيل العلمي في زمنه، ومحاولة دؤوبة لاستعادة الزمام من خلال تقييد سلوك الطالب بالورع، والابتعاد عن غمرات الدنيا، خاصة التقرب للأغنياء ومجالسة الأمراء اللذين عدّهما بلاء يجب الاستعداد له. لذا جاءت الأوصاف مرتبة على نحو ينأى بالعالِم عن الواقع المحتدم بالأهواء والمطامع. بما أن الأعمال بالنيات فأول ما يبدأ به طالب العلم هو تصحيح النية والتأكد من سلامة القصد. حيث يكون مراده من الطلب أن ينفي الجهل عن نفسه، ويعبد الله كما أمره وليس كما اتباعا لهواه. حتى إذا صحت النية لزم أن يكون السلوك مرآتها، فيقصد مجالس العلم وعليه سيما الوقار والحلم. ويحسُن أن يكون به ميل إلى الوحدة، ليشغل وقته بالذكر والتلاوة والتفكر. أما إذا “ابتلي” بالأصحاب فإن الآجري يضعه أمام ثلاثة نماذج تتناسب مع الإطار الذي ارتضاه: صاحب أعلم منه فيتعلم منه، وآخر مثله فيذاكره العلم لئلا ينسى، وثالث أدنى مرتبة فيُعلمه ابتغاء وجه الله. بعد مرحلة الطلب وتحصيل العلم الكثير، ينشغل الآجري بالأخلاق التي تحفظ مسافة أمان بين العالم وسائر الناس، وتحقق الهيبة الممزوجة بالإشفاق على الخلق. فيؤكد مرة أخرى على خلق التواضع، والصبر، والمداراة. ويُنبه إلى مسائل الشغب أو المحدثات في البدع ليجتنبها العالم، ولا يُناظر إلا على جهة الاضطرار لا الاختيار، لما في المناظرة من احتكاك بأهل الزيغ والأهواء. إن هذا الحرص على تخريج عالم على “الحقيقة”، والتماس الفقيه الذي تُطابق خطاه طريق السلف، يؤشر على اهتزاز الصورة في المجتمع الإسلامي آنذاك، وبروز ظواهر أقلقت الآجري، وحملته على سن قواعد موجهة للتحصيل العلمي، وفي مقدمتها التكسب بالعلم، واتخاذه وسيلة لإحراز المناصب التي ازدادت الحاجة إليها، خاصة القضاء والخطابة. وتسعفنا فقرة لأبي عثمان الجاحظ لكشف أبعاد الصورة التي لا شك أنها كانت مثار استياء. يقول في كتابه (الحيوان):” وقد تجد الرجل يطلب الآثار وتأويل القرآن، ويجالس الفقهاء خمسين عاما، وهو لا يُعد فقيها، ولا يُجعل قاضيا؛ فما هو إلا أن ينظر في كتب أبي حنيفة وأشباه أبي حنيفة، ويحفظ كتب الشروط في مقدار سنة أو سنتين، حتى تمر ببابه فتظن أنه من بعض العمال؛ وبالحري ألا يمر عليه من الأيام إلا اليسير، حتى يصير حاكما على مصر من الأمصار أو بلد من البلدان”. إمعانا في الزجر عن مخالفة طريق السلف، يُفرد الآجري كتابا خاصا بالعالم الجاهل المفتتن بعلمه. فيبدأ بالبسملة إيحاء بالفصل بين صورتين للعالِم، ثم يسرد عددا من الأحاديث والأخبار التي تذم علماء الشهرة والرياء، وتعتمد الترهيب بذكر أحوالهم في آخر الزمان، حيث يبلغ الأمر بالعالِم أن يصير في قومه أنتنَ من جيفة الحمار. أما أهم أوصاف العالم الجاهل التي ساقها الآجري فإنها تُظهر حرصه على التنفير من التكسب بالعلم، أو التماسّ مع السلطة وأرباب المال، وبذلك يُكرس موقف الانسحاب الذي تبناه بعض أهل العلم نتيجة التحولات العميقة التي شهدها العالم الإسلامي بعد مقتل الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه. من أوصاف علماء الظاهر كما يسميهم الآجري: الفخر والرياء، والجدل والمراء، وطلب العلم الذي يوافق الهوى، لأن مراده أن يُعرف بأنه من طلاب العلم. ومنها أنه يسرع للعلم الذي يشرف به عند الناس، بينما يثقل عليه كل علم تضمّن واجبه نحو خالقه. ومنها أن يحزن على علم فاته، بدل أن يحزن على العلم الذي معه ولم يعمل به. ويُظهر فرَحه إن أخطأ عالِم، وسرورَه بموت أهل العلم. إنه نموذج للزيف والتجمل بالعلم كما يتجمل الرجل بالثوب، وحين يصادف بيئة تحتضنه فلا شك أنه سيصبح عاملا من عوامل هدم القيم والاستقرار، وسببا للفرقة لا للوحدة. لذا يُعلق الآجري على تلك الأخبار قائلا: فإذا كان يُخاف على العلماء في ذلك الزمان أن تفتنهم الدنيا، فما ظنك به في زماننا هذا؟ ويحق لنا أن نعلق على الآجري بالقول: إن كانت تلك مخاوفك على العلماء وطلبتهم في ذلك الزمان، فما ظنك به في زماننا هذا !
اشتمل هذا الكتاب على (105) نصًا مسندًا ، رتبها المؤلف تحت مقدمة في “فضل العلم”، ثم باب “ذكر ما جاءت به السنن والآثار من فضل العلم والعلماء في الدنيا والآخرة”، ثم ذكر لب مادة الكتاب تحت عنوان ” كتاب أخلاق العالم الجاهل المفتتن بعلمه . وقد تضمن الكتاب على أحاديث مرفوعة، وآثار موقوفة ومقطوعة, والمؤلف يعلق على ما يسرده من الأخبار؛ وتعليقه يمثل توضيح دلالة النص أو بيان مفاده، وقد يذكر المؤلف ما يريده من المعاني، ثم يتبعه بما يؤكده من النصوص
من خلال كتابيه “أخلاق حملة القرآن” و”أخلاق العلماء”، يبدو الفقيه أبو بكر الآجري رحمه الله منشغلا بما يمكن أن نسميه ترسيم حدود بين أهل العلم وعامة الناس. وهو ترسيم يحكمه الوازع الديني ممزوجا بحس أخلاقي عال، وبمشاهدات تُنبئ عنها عظاته وتوجيهاته المفعمة بالإشفاق والحنو على ورثة الأنبياء. يصفه بعض من نقلوا شيئا من أخباره، كالخطيب البغدادي وابن خلكان وغيرهما، بالثقة و الدين والخلق، وأنه كان صاحب سنة يكره التعصب المذهبي. استكمل مشواره التعليمي ببغداد، وحدّث بها زمنا، ثم انتقل إلى مكة حاجا فأعجبته، فدعا الله أن يرزقه الإقامة بها سنة، غير أنه سمع هاتفا يقول: بل ثلاثين سنة، فكان كذلك. وقضى مدة إقامته بها مُحدثا وداعيا إلى الورع والزهد، واتباع طريق السلف إلى أن وافته المنية سنة ستين وثلاثمئة للهجرة. أما كتابه (أخلاق العلماء) فيرى الحافظ ابن رجب أنه من أجلّ ما صُنف في أخلاق العلماء وآدابهم. وكل من تأمله علم طريقة السلف وما حدث بعدها من مخالفات. والكتاب بحق منظومة أخلاق وقيم، تؤطر حركة العالِم داخل المجتمع، وتُنبه إلى الآفات التي تشوب أداءه فتُجرده من رسالته السامية، ودوره في تهذيب القلوب، وإصلاح الفهم والسلوك؛ كل ذلك بأسلوب مشرق وهادئ، ومفعم بحس المسؤولية التي ألقتها نصوص الكتاب والسنة على عاتق العلماء. تضمنت خطة الكتاب كما وضعها الآجري إبراز مكانة العالِم في الإسلام، ومظاهر التشريف التي خصته بها الآيات والأحاديث النبوية. إلا أن الأمر مشروط بالتزام آداب وأخلاق محددة، سواء في طلبه للعلم أو عند نشره وتبليغه. ويظل الهاجس الذي يحكم الآجري في توجيهاته العديدة هو “النية” التي تقف خلف هذا الطلب، فيؤكد غير ما مرة في ثنايا الكتاب على ابتغاء ثواب الله، والزهد في متاع الدنيا، والحذر من التقرب للأغنياء أو مجالسة الأمراء. عند عرضه للسنن والآثار الواردة في فضل العلماء، يزاوج الآجري بين ثمرة حضور العالِم في المجتمع وألوان الانكسارات التي تعقب غيابه. فالذين أوتوا العلم هم أشد الناس خشية لله، وأعلى درجة منهم. هم النجوم التي يُهتدى بها كما قال أبو الدرداء رضي الله عنه، وكل شيء يستغفر لهم حتى الحيتان في البحر. أما غيابهم وفقدهم فهو نجم طُمس وكسر لا يُجبر، ولا خير في الناس بعدهم. وينقل عن ابن مسعود رضي الله عنه أثرا يؤكد فداحة الخطب حين يموت العالِم، فيقول محدثا جلساءه: “أتدرون كيف ينقص الإسلام؟ قالوا: كيف ؟ قال كما ينقص الدابة سمنها، وكما ينقص الثوب عن طول اللبس، وكما ينقص الدرهم عن طول الخبت، وقد يكون في القبيلة عالمان فيموت أحدهما فيذهب نصف علمهم، ويموت الآخر فيذهب علمهم كله.” في الباب الثاني من الكتاب يشرع الآجري في ترسيم الحدود بين صورة العالِم كما تناولتها نصوص الكتاب والسنة وأقوال السلف، وبين تجلياتها في الواقع. فاهتم بداية بإزالة اللبس الذي قد ينشأ لدى طالب العلم حين يستعرض تلك النصوص، فيتوهم أن الفضل عام يشمل كل من تعلم علما وحفظه، بغض النظر عن الوشيجة الدينية والأخلاقية التي تحكم هذا المسار، فيُنبه للأمر قائلا: ” فإن قال قائل من علم العلم وحفظه وناظر فيه يدخل في هذا الفضل الذي ذكرت. قيل له أرجو أن لا يخلي الله كل مسلم طلب الخير والعلم من خيره الذي وعد به العلماء، ولكن قد ذُكرت لهم أوصاف وأخلاق.” وحين نلقي نظرة على مجمل الأوصاف التي حددها الآجري لطلبة العلم، نلمح في ثناياها استياء مما آل إليه التحصيل العلمي في زمنه، ومحاولة دؤوبة لاستعادة الزمام من خلال تقييد سلوك الطالب بالورع، والابتعاد عن غمرات الدنيا، خاصة التقرب للأغنياء ومجالسة الأمراء اللذين عدّهما بلاء يجب الاستعداد له. لذا جاءت الأوصاف مرتبة على نحو ينأى بالعالِم عن الواقع المحتدم بالأهواء والمطامع. بما أن الأعمال بالنيات فأول ما يبدأ به طالب العلم هو تصحيح النية والتأكد من سلامة القصد. حيث يكون مراده من الطلب أن ينفي الجهل عن نفسه، ويعبد الله كما أمره وليس كما اتباعا لهواه. حتى إذا صحت النية لزم أن يكون السلوك مرآتها، فيقصد مجالس العلم وعليه سيما الوقار والحلم. ويحسُن أن يكون به ميل إلى الوحدة، ليشغل وقته بالذكر والتلاوة والتفكر. أما إذا “ابتلي” بالأصحاب فإن الآجري يضعه أمام ثلاثة نماذج تتناسب مع الإطار الذي ارتضاه: صاحب أعلم منه فيتعلم منه، وآخر مثله فيذاكره العلم لئلا ينسى، وثالث أدنى مرتبة فيُعلمه ابتغاء وجه الله. بعد مرحلة الطلب وتحصيل العلم الكثير، ينشغل الآجري بالأخلاق التي تحفظ مسافة أمان بين العالم وسائر الناس، وتحقق الهيبة الممزوجة بالإشفاق على الخلق. فيؤكد مرة أخرى على خلق التواضع، والصبر، والمداراة. ويُنبه إلى مسائل الشغب أو المحدثات في البدع ليجتنبها العالم، ولا يُناظر إلا على جهة الاضطرار لا الاختيار، لما في المناظرة من احتكاك بأهل الزيغ والأهواء. إن هذا الحرص على تخريج عالم على “الحقيقة”، والتماس الفقيه الذي تُطابق خطاه طريق السلف، يؤشر على اهتزاز الصورة في المجتمع الإسلامي آنذاك، وبروز ظواهر أقلقت الآجري، وحملته على سن قواعد موجهة للتحصيل العلمي، وفي مقدمتها التكسب بالعلم، واتخاذه وسيلة لإحراز المناصب التي ازدادت الحاجة إليها، خاصة القضاء والخطابة. وتسعفنا فقرة لأبي عثمان الجاحظ لكشف أبعاد الصورة التي لا شك أنها كانت مثار استياء. يقول في كتابه (الحيوان):” وقد تجد الرجل يطلب الآثار وتأويل القرآن، ويجالس الفقهاء خمسين عاما، وهو لا يُعد فقيها، ولا يُجعل قاضيا؛ فما هو إلا أن ينظر في كتب أبي حنيفة وأشباه أبي حنيفة، ويحفظ كتب الشروط في مقدار سنة أو سنتين، حتى تمر ببابه فتظن أنه من بعض العمال؛ وبالحري ألا يمر عليه من الأيام إلا اليسير، حتى يصير حاكما على مصر من الأمصار أو بلد من البلدان”. إمعانا في الزجر عن مخالفة طريق السلف، يُفرد الآجري كتابا خاصا بالعالم الجاهل المفتتن بعلمه. فيبدأ بالبسملة إيحاء بالفصل بين صورتين للعالِم، ثم يسرد عددا من الأحاديث والأخبار التي تذم علماء الشهرة والرياء، وتعتمد الترهيب بذكر أحوالهم في آخر الزمان، حيث يبلغ الأمر بالعالِم أن يصير في قومه أنتنَ من جيفة الحمار. أما أهم أوصاف العالم الجاهل التي ساقها الآجري فإنها تُظهر حرصه على التنفير من التكسب بالعلم، أو التماسّ مع السلطة وأرباب المال، وبذلك يُكرس موقف الانسحاب الذي تبناه بعض أهل العلم نتيجة التحولات العميقة التي شهدها العالم الإسلامي بعد مقتل الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه. من أوصاف علماء الظاهر كما يسميهم الآجري: الفخر والرياء، والجدل والمراء، وطلب العلم الذي يوافق الهوى، لأن مراده أن يُعرف بأنه من طلاب العلم. ومنها أنه يسرع للعلم الذي يشرف به عند الناس، بينما يثقل عليه كل علم تضمّن واجبه نحو خالقه. ومنها أن يحزن على علم فاته، بدل أن يحزن على العلم الذي معه ولم يعمل به. ويُظهر فرَحه إن أخطأ عالِم، وسرورَه بموت أهل العلم. إنه نموذج للزيف والتجمل بالعلم كما يتجمل الرجل بالثوب، وحين يصادف بيئة تحتضنه فلا شك أنه سيصبح عاملا من عوامل هدم القيم والاستقرار، وسببا للفرقة لا للوحدة. لذا يُعلق الآجري على تلك الأخبار قائلا: فإذا كان يُخاف على العلماء في ذلك الزمان أن تفتنهم الدنيا، فما ظنك به في زماننا هذا؟ ويحق لنا أن نعلق على الآجري بالقول: إن كانت تلك مخاوفك على العلماء وطلبتهم في ذلك الزمان، فما ظنك به في زماننا هذا !
///
****
اخوكم/ ياسين السويدي
. نسأل الله أن يغفر لنا ولكم ولوالدينا ووالديكم وجميع المسلمين والمسلمات .
--------------------